خطبة بعنوان : “التعليم ضرورة شرعية ووطنية”، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح
خطبة بعنوان : “التعليم ضرورة شرعية ووطنية”، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح، بتاريخ 17 من ذي الحجة 1438هـ، الموافق 8 سبتمبر 2017م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
الحمد لله رب العالمين ..الكريم الرحمن، علَّم القرآن، خَلَق الإنسانَ علَّمه البيانَ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له في سلطانه علم الإنسان ما لم يعلم ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله القائل :” إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر”ٍ(الترمذي وأبو داود). اللهم صلاة وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله وعلى آلك وصحبك، ومن اتبعهم بإحسان. أما بعدُ:
فإنَّ العلمَ من نعَم الله التي أنْعم الله بها علينا؛ فهو الخيْر والهداية والبركة والرِّفعة، مَدَحَه اللهُ – عز وجل – في كتابه، وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – بل أمر نبيُّنا – عليه الصلاة والسلام – بأن يطلب الاستزادة منه؛” وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا “(طه/ 114). بل وافْتَتَحَ اللهُ به كتابه الكريم، وجعلَه أول ما نَزَلَ على نبيِّنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – وذلك في سورة العلق:” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ “(العلق/ 1- 2). ولمزيد أهميته فإنَّ الله أوْلى لأهله ومكتسبيه العنايةَ وأعطاهم المكانةَ، ورَفَعَ من قَدْرِهم وشَرَفِهم وعظيم مكانتهم في آيات كثيرة، وأحاديث نبويَّة عديدة؛ فقد قال – تعالى – في سورة الزمر: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ “(الزمر/: 9)، وقال عز وجل:”يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ “(المجادلة/ 11).أي إنَّ الله يرفعُ هؤلاء العلماء الدرجات تِلْوَ الدرجات، وفضْل هؤلاء إنما يدلُّ على فضْل ما يحملون.
العلماء ورثة الأنبياء:
وللعلم قيمة في الميزان الإسلامي، فحياة الناس لا تستقيم إلا به، وقد كان العلم كان صفةً لازمةً للأنبياء عليهم السلام، وكان من رحمة الله عز وجل أنه لم يرفع العلم بذهاب الأنبياء، وإنما جعل الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يورِّثُوا علمهم هذا قبل أن يموتوا إلى طائفة معينة من البشر، أوكل إليها مهمة تعليم الناس، والقيام بالدور الذي كان يقوم به الأنبياء في حياتهم، ولكن دون وحيٍ ودونما عصمة. وهذه الطائفة من البشر هي “العلماء”.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر”ٍ(الترمذي وأبو داود). .
ففي نهاية هذا الحديث وضح رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء لم يتركوا خلفهم مالاً ولا مُلكًا، وإنما تركوا العلم، وهذه هي أعظم تركة، ومن أخذها فقد فاز حقًا، يقول الله تعالي: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”(البقرة/269).
وفضلاً عن ذلك فالحديث يبين فضل العلم ومنزلة العلماء؛ فالملائكة تضع أجنحتها لمن يبدءون طريق العلم؛ تواضعًا وتعظيمًا وتكريمًا وتبجيلاً لهم، وكفى بذلك شرفًا ومنزلة !!
ويخص رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة العلماء -وليس طلاب العلم- بمزية خاصة، وهي أنه يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، بل يصل الأمر إلى أن تستغفر له الحيوانات أيضًا، بل حتى تلك التي تسبح في جوف الماء !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد فقط، بل إنه صلى الله عليه وسلم يُفضِّل ذلك العالِم ويرفع منزلته ومكانته على العابد لله عز وجل !! وقد جعل المقارنة بينهما في ذلك تمامًا كما يكون القمر ليلة البدر -كما ورد ذلك في رواية أخرى- مع غيره من النجوم، وذلك في إشارة إلى أن نور القمر يحجب نور الكواكب الأخرى ويُغطِّي عليها، مهما كثُر نورها بكثرة أعدادها !!
ألا ترى أن الأمر جد عظيم..؟!بين العالم والعابد ومع كون هذه المقارنة عظيمة في حق العلماء، إلا أن هناك مقارنة أعظم منها، ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَابِدٌ، وَالْآخَرُ: عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ”. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ”. وهذا كلُّه السرُّ الرئيس في ترابط العلمِ بالإيمان، فكلَّما ازدادَ علمُ الإنسان ازدادَ إيمانًا؛ كما قال – عز وجل -: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ “(فاطر/ 28).فالعلم يهدي للإيمان ويقويه، والإيمان يدعو للعِلْم، وهذه العلاقة لا توجد في أيِّ دينٍ غيْر الإسلام.
تقديم العلماء على غيرهم:
وبما أنَّ للعلم والعلماء من الفضل الكثير والخيْر العميم، والهداية من الزيغ والسير على الحقِّ والنهوض بالمجتمع، فلا بُدَّ على المجتمع من السعي للعلماء، وتَوْقيرهم والمحافظة عليهم، بعد المشاركة في صناعتِهم.
وكذلك مواصلة الدعاء لهم؛ كما قال النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس لَمَّا رأى ذكاءَه: “اللهم فقهه في الدين، وعَلِّمه التأويلَ”؛ فنال مكانته بفضْل دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – له – رضي الله عنه.
وكذلك توقيرُهم وإجلالُهم واحترامُهم؛ فالعلماء وَرَثة الأنبياء، ولا بدَّ لورثة الأنبياء أنْ يُوَقِّرَهم أهلُ الإيمان، وأنْ يحترموهم؛ اقتداءً بالأنبياء، واتِّباعًا للنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي زادَ من شرفِهم ومكانتهم، وهذا ما كان يفعله الصحابة – رضي الله عنهم – مثل ما فَعَلَ ابن عباس مع زيد بن ثابت – رضي الله عنه – مع أنَّ ابن عباس – رضي الله عنه – هو ابنُ عمِّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وزَيْد هو مَوْلَى من الموالي: يقول الشعبي: “صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قُرِّبتْ له بَغْلة ليركبها، فجاء ابن عباس، فأخَذَ بركابِه، فقال له زيد: خَلِّ عنها يا ابن عمِّ رسول الله، فقال ابنُ عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء”.
ويؤكد معنى تقديم العلماء على غيرهم بصرف النظر عن مناصبهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو أن نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ -وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ- فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تعالى، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ” (مسلم).
وفي مثل ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه صلى على جنازة فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه، فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء. فقبَّل زيد بن ثابت رضي الله عنه يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم [15].
فعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه ويوقِّره ويقدِّمه، ويمسك له دابته رغم صغر سنه، وليس ذلك لشيءٍ إلا لعلمه وفقهه، وكان هذا عموم حال الصحابة رضي الله عنهم وعهدهم مع العلماء.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرًّا، ولا تغتابن أحدًا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته” (إحياء علوم الدين).
وقال علي رضي الله عنه أيضًا: “العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة (أي: ثغرة) لا يسدها إلا خلفٌ منه” (إحياء علوم الدين).
وقال أيضًا منشدًا:
مـا الفخـر إلا لأهــل العلــم إنهــم *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقــدر كل امــرئٍ ما كان يحسنـه *** والجاهلــون لأهــل العلم أعـداءُ
ففــزْ بعلــمٍ تعــشْ حيًّــا بـه أبــدًا *** الناس موتى وأهل العلــم أحياءُ
بل يذكر الغزالي رحمه الله في الإحياء أن حق المعلم أعظم من حق الوالدين؛ لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة (إحياء علوم الدين).
ثم يقرر الغزالي -بعد أن أورد قول ابن المبارك حين سُئل: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد- فيقول: “ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنًا منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم(إحياء علوم الدين).
ويروي عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف عالمنا” [20] أي يعرف لعالمنا حقه.
وفي سبيل التربية على ذلك يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه ناصحًا ومرشدًا: “يا بنى، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا -وإن طال- حتى يسمِّك”. وعلى هذا ظلت مكانة العلماء محفوظة ومرموقة في الأمة الإسلامية، وظل قدرهم مرفوعًا فوق غيرهم من المسلمين.ولقد كان الناس يجتمعون بالآلاف حول البخاري رحمه الله ليعلمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره!!
يقول الشافعي رحمه الله:
وإن صغير القوم إن كان عالمًا *** كبيرٌ إذا ردت إليه المحافـــــــل
وصدق قول الشاعر:
العلم يرفع بيوتًا لا عماد لها *** والجهل يهدم بيت العزِّ والشرفِ
وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردًا فقدماها، فرفع ذلك الخبر إلى المأمون، فوجه إلى الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردًا!! قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليها. فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لومًا وعتبًا وألزمتك ذنبًا، وما وَضَعَ ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبيَّن عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم.وإن جواب المأمون هذا ليعكس نظرة الإسلام والأمة الإسلامية كلها آنذاك إلى العلم والعلماء، وما كانوا عليه رعاة ورعية من العناية والاهتمام والتعظيم والإجلال للعلم وأهله.فكان العالِم حقًا أعز الناس، وهذه هي الدرجة والمنزلة التي قررها الصالحون لعلماء الأمة وحفظوها لهم وأنزلوهم إياها، وقد علموا أنهم مصابيح الدجى التي يُهتدى بها، وهو الأمر الذي أورثهم عزًا ومجدًا وتقدمًا وحضارة ورفعة !!
مكانة معاذ بن جبل:وقد فقه الصحابة والتابعون والصالحون من هذه الأمة الكريمة هذا القدر، فعظموا علماءهم، ورفعوا من قدرهم، وحفظوا لهم مكانتهم، ولم يعتبروا في ذلك بعرقٍ ولا نسبٍ ولا جنسٍ ولا عمرٍ ولا منصب، إنما اعتبروا فقط بالعلم، فكان معاذ بن جبل رضي الله عنه على صِغر سنه معظمًا جدًّا بين الصحابة، حتى إنهم كانوا لا يرفعون أعينهم في عينه حياءً منه وتعظيمًا له رضي الله عنه. هذا مع أنه مات وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولكنه عُظِّم بالعلم الذي كان يحويه في صدره رضي الله عنه.يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حقه -كما يروي أنس بن مالك رضي الله عنه: “وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ” (الترمذي وأحمد).
فإن أردت -أخي في الله- أن تصبح عالمًا، فلابد لك أولًا أن تعرف منزلة ما تطلب، ومكانة ما تهفو إليه نفسك؛ فليس في الدنيا أعز ممن ورث الأنبياء، واستغفر له أهل الأرض والسماء !!
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أما بعد فياجماعة الإسلام :
والسنة النبويَّة زادتْ ما أتى به القرآن الكريمُ من فضْل العلمِ والعلماء، فنجد أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – جعلَ الخيرَ متوقفًا على العلمِ، فقال كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مَن يُرِدْ الله به خيرًا، يفقهه في الدين”، والفقه: هو العِلْمُ الشرعي.
العلماء فوق المجاهدين والشهداء:بل جعلَ صاحبَه بمنزلة المجاهد في سبيل الله؛ لما رَوى أنس فقال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَن خرجَ في طلب العلمِ، فهو في سبيل الله حتى يَرْجِع”( الترمذي).
فضلاً عن أنَّه الطريق الموصل إلى الجنة؛ قال نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم :”مَن سَلَكَ طريقًا يلتمسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجْتَمَعَ قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه، إلا نزلتْ عليهم السَّكِينَة، وغشيتهم الرحمةُ وحفَّتهم الملائكة، وذَكَرَهم اللهُ فيمَن عنده”( مسلم).
ولهذا الفضل أثره العظيم وخيْرُه الجسيم على الأمة؛ أفرادًا وجماعات، وعلى جميع المجتمعات، فانظر للمجتمعات التي ينتشر فيها العلمُ وتزداد فيها المعارفُ، ترها مجتمعات مرموقة في أخلاقها وفي تطورها وتعاملها فيما بينها، فيضفي العلمُ عليها صبغة الراحة والطمأنينة والسَّكِينَة والعيش الرغيد، في حين ترى المجتمع الذي يسوده الجهْلُ يكثرُ فيه الاضطراب والتناحُر والتباغُض، إضافة إلى التخلُّف الذي يشهدُه، وكلُّ هذا بسببِ الجهْل.
بل إن من الفقهاء في الإسلام من رفع درجة العلماء فوق درجه المجاهدين في سبيل الله وليس فقط العُبَّاد!! يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة الأفذاذ: “والذي نفسي بيده، ليودَّنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم” [أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/8] أي من كرامة العلماء. ويقول العلامة التابعي الحسن البصري رحمه الله: “يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء!!” [المصدر السابق ].
وإن كان البعض قد يستغرب هذا الكلام، إلا أن حجته قوية، فالجهاد لا يُعرف فضله أساسًا إلا بالعلم، وعليه فلن يجاهد إلا من “علم” قيمة الجهاد ودرجة المجاهد، كما لن تُعرف شروط الجهاد ومشروعيته إلا بالعلم، ولن يُعرف فرض العين من فرض الكفاية فيه إلا بالعلم، ومن ثم فقد يترك “من لا يعلم” فرضًا ويقيم نافلة، وهذا لا يجوز، كما أنه قد يتعدى في جهاده الحدود المشروعة، أو يقاتل من لا يجوز قتاله، وهذا كله لا يجوز.
وهكذا، فالعلم هو الذي يحدد مشروعية الجهاد وحدوده، وبغير العلماء الصادقين لن يوجد مجاهدون على حق.بل قد يأثم المسلم بجهاده بغير علم!! وما فتنه الخوارج بخافية على أحد.
فتنة الخوارج:
فالخوارج كانوا يعبدون الله تعالى، ويقيمون الفرائض، ويجاهدون في سبيل الله، وذلك كله على غير هدًى من الله ولا علم، فكان أن خرجوا من الدين بالكلية، بينما هم يحسبون أنفسهم على أفضل درجات العبادة والجهاد !!
ولما همَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل أحدهم -كما يروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه- قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ” [البخاري ومسلم].
فكانت آفتهم الرئيسية أنهم اجتهدوا بغير علم، فأدى بهم ذلك إلى أن يجاهدوا على باطل، حتى كان أحد زعمائهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم والذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه – كان يظن تمام الظن أنه تقرب إلى الله تعالى بقتل أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين وزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبشر بالجنة مرارًا، علي بن أبي طالب رضي الله عنه!!
وكان هذا اعتقادٌ راسخ عند كل الخوارج، حتى إنك لتجد عمران بن قحطان (أحد شعراء الخوارج المتأخرين) يقول واصفًا هذه الطعنة اللئيمة التي قُتل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها *** إلا ليبلُغ من ذي العرش رِضوانًا
إنــي لأذكــره حينًـــا فأحسبــه *** أوْفَى البـريَّــة عنـد الله ميزانًـــــا
كل ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه يوم خيبر -كما يروي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: “لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَالَ: يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ” [البخاري ومسلم ]. وحين كان الغد كان هذا الرجل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولم يقع عبد الرحمن بن ملجم (القاتل) في هذه الكارثة إلا بفقد العلم، يقول تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا” (الكهف/ 103- 104).
ولكم عانت الأمة الإسلامية من بعض المتحمسين للدين، المشتاقين للجهاد ولكن بغير علم، وقد أدى بهم حالهم هذا إلى أن يجتهدوا اجتهادات خاطئة، ويحكموا أحكامًا جائرة، فكانت النتيجة تكفير المجتمعات المسلمة، واستباحة دماء الأبرياء، والاستهانة بكل الحرمات، والقتل والسفك والظلم والبطش باسم الجهاد والدعوة والتضحية!! والإسلام من ذلك كله براء.